٢١/٧/٢٠٢٥
ميخائيل عوض
١
نَتأكَّدُ بالأدلَّةِ القاطعةِ وبتجلِّياتِ الواقعِ وحِراكِه أن لا أحدَ من المتدخِّلينَ والفاعلينَ في سوريّةَ يَفهمُها أو يتعرَّفُ إلى طبائعِها وأسرارِها، فَتُرتكَبُ الأخطاءُ القاتلةُ، وتزيدُ في معاناتِها، وفي ذبحِ أهلِها وناسِها، وتؤثّرُ عميقًا في طبيعتِها ووحدتِها الوطنيّةِ والمجتمعيّةِ.
٢
فَرَحةُ ترمب وتوماس براك بالجولاني، وتشبيهُه بجورج واشنطن، واعتمادُه مديرًا لمشروعِ الهيمنةِ على سوريّةَ لتأمينِ مصالحِ الشركاتِ، وخاصّةً النفطِ والغاز، وبرغمِ استعجالِ تجميدِ العقوباتِ وتوقيعِ عقودٍ مُجزيةٍ مع شركاتٍ محسوبةٍ على ترمب ويتكوف وبراك، واستعجالِ براك تسويقَ مشروعِه لإعادةِ هيكلةِ سوريّةَ والشرقِ، وإعلانِه الرغبةَ بدولةٍ مركزيّةٍ، وبالسعيِ لضمِّ لبنان، بدءًا من الشمالِ وطرابلس، لِموقعِها الجغرافيِّ وطبيعةِ ساحلِها ومرفئِها كممرٍّ أساسيٍّ للغازِ المُسالِ والنفطِ من العراقِ وسوريّةَ وقطرَ والخليج، لتأمينِ نهبِ الشركاتِ وهيمنتِها على السوقِ ولمُحاصَرةِ روسيا والصين، والتحكُّمِ بإمداداتِ أوروبا — إلّا أنّ الواقعَ يُعيدُ تثبيتَ حقيقةِ أنَّ حساباتِ البيادرِ لا تُطابِقُ نتائجَ الحقول.
٣
ليسَ مصادفةً أن يبدأَ الجولاني مذبحةَ السويداء عشيةَ توقيعِ عقودٍ بملياراتِ الدولارات مع مديرِ شركة "أرجينا" للنفطِ والغازِ المُسال، "جوناثان باس"، والشركةُ كأخواتِها تعودُ ملكيّتُها واستثماراتُها لثُلاثيّ: توماس براك، ويتكوف، وترمب. وفيها أيضًا كَشْفُ أسرارِ مُخطَّط ومشروعِ ترمب للعربِ والإقليم؛ فالمبعوثان إلى السفيرِ الأميركيِّ المُعيَّنِ في لبنانَ من رجالِ الصفقاتِ وأصدقاءِ ترمب وشُركائِه الشخصيّينَ منذ عقود.
٤
مذبحةُ السويداءِ كشفتِ المستورَ البعيدَ عن الأعيُنِ، والجاري تخطيطُه في الغرفِ السوداءِ؛ فالإذنُ للجولاني صَدَرَ في اجتماعاتِ باكو، التي شاركَ فيها التركيُّ والأميركيُّ والإسرائيليُّ، وأُمِرَ الجولاني بالشروعِ بالتنفيذ.
والأمرُ ذاتُه يكشفُ لنا لماذا مذبحةُ الساحلِ، ولماذا تمَّ تجاهلُها، بل وكُوفِئَ الجولاني بلقاءِ ترمب، وتجميدِ العقوباتِ، والإشادةِ به إلى المستوى غيرِ المسبوقِ دبلوماسيًّا، وإطلاقِ يدِه بلا رقابةٍ أو حسابٍ.
انبهَرَ الجولاني وأردوغان وصحبُهم، وافترضوا أنّ زمنَ سوريّةَ أصبحَ طوعًا لهم، فافتُعِلَت مشكلةٌ بين البدوِ والدروزِ، وبمبادرةٍ من عناصرَ محسوبةٍ على البدو، وبدأتِ المذبحةُ بقصدِ إرهابٍ وكسرِ روحِ سوريّةَ وصمغِها الوطنيِّ اللاصقِ من الجبلين، قبل أن ينهضَ جسدُها في المدنِ السنيّةِ الشاميّةِ العريقةِ، فتعودَ فاعلةً.
إلّا أن طبائعَ الشامِ وأسرارَها كانتْ بالمرصاد؛ فغزّةُ بوّابةُ ساحلِها، وبيروتُ جوهرةُ عقدِها، وصنعاءُ جناحُها الجنوبيُّ، في فعلِ مقاومةٍ أسطوريّةٍ تُعجِزُ نتنياهو وتُضطِرُّه للاستجابةِ لمطالبِ دُرُوزِ فلسطين، وإلّا يخسرَ جيشَه قوّةً نوعيّةً، ويُشهِرَ الهزيمةَ في غزّة، وتبدأَ دويلتُه بخسارةِ الحرب، حيثُ لا مكانَ لها في المنطقة.
فالتناقضاتُ، ومنها غيرُ المحسوبةِ في المخططاتِ، وفي لقاءِ باكو، عطّلَتِ المخطَّطَ، وتبيّنَ أن كلامَ براك عن الشرعِ لا أصلَ له ولا أساس؛ فالرجلُ غيّرَ جلدَه، لكنّه ما زالَ على ما شَبَّ عليه، وأنّه رجلُ أردوغان أصلًا، وأن بنيتَه العسكريّةَ والأمنيّةَ ليست سوريّةً، ولا يأمنُها السوريّون، وتحرّكُها المخابراتُ والضبّاطُ الأتراكُ، لا هو ولا وزيرُ دفاعِه وداخليّتِه، وتلك مجاميعُ إرهابيّةٌ غالبُها من الغرباءِ، وروحُهم وممارساتُهم سَلْجوقيّةٌ، فتفلّتوا نَهبًا وتعفيشًا وقتلًا وإجرامًا.
وعندما فشلَتِ المحاولةُ باسمِ الدولةِ المركزيّةِ، وليس في أجهزتِها أيُّ مركزيّةٍ أو التزامٍ أو روحٍ للدولة، غيّروا الاسمَ، وصار "قبائلَ وعشائرَ عربيّة"، والفاعلون ليسوا بسوريّين، ولا بعربٍ، ولا من العشائر، بل أنفسُهم أحفادُ السَلْجوقيّةِ والعثمانيّةِ البائدةِ.
٥
تَفاجأ براك، على حدِّ زعمِه، وامتعضَ ترمب من تدخُّلِ نتنياهو، وأمَرَ بوقفِ الاعتداءاتِ الإسرائيليّة، وأمَرَ الجولاني بوقفِ المذبحة، وأعلنَها براك صريحةً: وقفُ النارِ باتّفاقِ نتنياهو والجولاني بواسطةٍ أميركيّةٍ؟؟...
هزلَتْ، حقًّا.
المذبحةُ في السويداءِ، ووقفُ النارِ بواسطةِ ترمب، بين نتنياهو والجولاني؟؟
كيفَ تكونُ دولةٌ ومركزيّةٌ ووطنيّةٌ وسياديّةٌ وتوحيديّةٌ؟
كيفَ تُدمَّرُ رموزُ السيادةِ من وزارةِ الدفاعِ وقيادةِ الأركانِ في ساحةِ الأُمويّين، وتكونُ سلطةُ الشرعِ وطنيّةً وأُمويّةً، ويأتمرُ بأوامرِ براك وأردوغان ونتنياهو، ويَظهرُ مجرّدَ مديرِ مشروعٍ فاشلٍ؟
مياهُ جبلِ العربِ، ودماءُ نساءِ وأطفالِ السويداءِ، والأبرياءُ على الضفّةِ الأُخرى، كشفتْ مزاعمَ وأكاذيبَ الغطّاس.
والأهمُّ أن الجولاني لا يَمونُ على شيء، والحاكمُ الفعليُّ تركيٌّ، والقوّةُ الغاشمةُ بأمرتِه، واستهدافُ سوريّةَ لثرواتِها وموقعِها الجغرافيِّ الحاكمِ، ولرُوحِها وطبائعِها المُقاوِمةِ والعروبيّةِ، واستُهدِفَتِ الرُّوحُ في الجبلين، ليسهُلَ قتلُ الجسد.
٦
في فتنةِ السويداءِ، جرتْ دماءٌ كثيرةٌ، ودفعَ الشعبُ أثمانًا باهظةً، لا لهدفٍ، ولا لمصلحةٍ شعبيّةٍ أو وطنيّةٍ، أو حتى جغرافيّةٍ أو طائفيّةٍ أو مناطقيّةٍ، إنّما لتمريرِ مخطّطٍ يستهدفُ الجميع.
ارتكبَ المخطّطون والمنفّذون أخطاءً قاتلةً أدّتْ إلى تصعيدِ التوتّراتِ بينهم، وكشفتْ حقيقةَ تفاهماتِهم وأهدافِهم جملةً وتفصيلًا.
٧
للشّامِ ربٌّ يحميها، وطبائعُ وروحٌ وأسرارٌ لا يعرفُها إلّا خالقُها، ومَن أعطاها المكانةَ والمهمّة.
وفي السياقِ، تَعرِي المعتدين المتكالبينَ عليها، وتُجهِضُ أدواتِهم، وتكشفُ عن طبائعِهم وتوحّشِهم.
لن يَكفّوا عن نَصبِ الكمائنِ لها، وعن محاولاتِ قتلِها، لتأمينِ سيطرتِهم على العربِ والأقاليمِ، وإعادةِ هيكلةِ السيطرةِ الأميركيّةِ المتوحّشةِ على العالم، ومنعِ أوراسيا من النهوض، والشعوبِ من تمرّدِها، لتغييرِ العالمِ البائدِ بتسريعِ ولادةِ العالمِ الجديد.
٨
لم تَنتهِ المؤامراتُ، ولن تتوقّف؛ فالبحثُ عندهم جارٍ عن مذبحةٍ جديدةٍ تَجبُّ التي قبلَها، وتُغطّي على مذبحةِ وإبادةِ غزّةَ بالتجويعِ والتدمير.
وقد تكونُ وِجهةُ المؤامرةِ لبنانَ وشمالَه، بُلوغًا لطرابلسَ ومينائِها وساحلِها كممرٍّ أساسيٍّ ومُثمرٍ للمشاريعِ والنفطِ والغاز.
في هذه أيضًا، يُكشَفُ سرُّ توطينِ وتجنيسِ الغرباءِ، وإعطائِهم صفةَ جيشٍ وأمنٍ عامٍّ وشرطةٍ وأجهزةِ وزارةِ الداخليّة، فما زالَ لهم وظيفةٌ ودورٌ، وسيتمُّ تشغيلُهم لتأمينِ المخطّطاتِ والمشاريعِ.
هل سيتعلّمُ اللبنانيّون، ويتحوّطون، ويتوحّدون، ويُسقِطون مؤامرةَ تفكيكِ ودفنِ كيانِهم ووطنِهم ونموذجِهم؟
السلاحُ ورجالُه أكثرُ المُستهدَفين، وأهمُّ الفاعلين، وهم المعنيّون بأن يُصيغوا المشروعَ والرؤيةَ لإسقاطِ المؤامرةِ، قبلَ أن يتشظّى لبنان، ويَسقُطَ بين أيدي السّاعينَ والطامعين؛ فالمؤامرةُ مستمرّةٌ، وسبيلُ أصحابِها لتحقيقِ غاياتِهم: المذابحُ، والتدميرُ، للتصفيةِ والتهجيرِ، وكسرِ الإراداتِ، لِيَتمكّنوا.
لمتابعة كل جديد الاشتراك بقناة الأجمل آت مع ميخائيل عوض على الرابط
https://youtube.com/channel/UCobZkbbxpvRjeIGXATr2biQ?si=yu8zmD9s3Rrlsevf